تونس

عبد الجليل بوقرة يتحدث ل"الصباح الأسبوعي" عن أزمة الجبهة الشعبية: على اليسار أن يتجدّد.. وإلا سيندثر بسبب عوامل ذاتية وشخصية


- منذ قرابة الأربع سنوات لم يُحصل أي تقدّم ووصل اليسار إلى فترة ومرحلة مفصلية بتاريخه في تونس- اليسار وتحديدا الجبهة الشعبية بقي أسيرا لتصوّرات كلاسيكية قديمة وكرّس ممارسات سلبيّة تسببت في ضعفه وتشتّته
- الوضع الراهن والمتابعة الدقيقة لمواقف الجبهة لا توحي بتغيير في وضعها بل كلّ المؤشرات توحي بالدخول في نفق مظلم وفي أزمة وعودة التشّتت والانقسام
بات الجدل واسعا ولا يزال متواصلا داخل الجبهة الشعبية وخارجها على خلفية التشبّث بترشيح منجي الرحوي للانتخابات الرئاسية لسنة 2019 من جهة والتفاف عدد من مكونات الجبهة حول حمّة الهمامي كمرّشح وحيد لا جدال فيه ولا حوله. هذا التشبّث بالمواقف دفع بحزب الوطنيين الديمقراطيين الموّحد «الوطد» إلى التصعيد في لهجته من خلال بيانه الأخير ومن خلال مختلف التصريحات الإعلامية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي لقيادييه وعلى رأسهم زياد الأخضر ومنجي الرحوي.
فالرحوي دعا يوم الخميس 21 مارس الحالي، قيادات الجبهة الشعبية للقيام بعملية سبر آراء على الصفحة الرسمية للحزب للاختيار بينه وبين حمّة الهمامي في الترشّح للانتخابات الرئاسية، وفق تصريحه لراديو «ماد». كما بيّن أن استطلاعات الرأي التي تقوم بها بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي كانت لصالحه. وشدد على أن عملية ترشّحه كانت بهدف العمل على آلية تعيد للجبهة جمهورها والانخراط الفعلي والحقيقي لمناضليها.
ليست المرّة الأولى التي يدعو فيها الرحوي ومن ورائه حزبه «الوطد» إلى ضرورة تغيير منهج عمل الجبهة الشعبية لضمان بقائها في المشهد السياسي ومن ثمّة بالمشهد البرلماني، وإنّما تكرّرت هذه الدعوات في العديد المناسبات ومنذ سنة 2015 حيث كان الصراع والخلاف داخلي لم يتجاوز مكاتب الجبهة الشعبية ليُصبح اليوم معلنا ويتحوّل إلى معارك شخصية ذاتية من بعض الجبهاويين ما يطرح تساؤلا هل باتت وحدة اليسار بعد سنوات من التشّتت مهدّدة، وهل من أمل لإعادة ترتيب البيت الداخلي للجبهة؟
يبدو أنّ الوحدة وتوسيع جبهة اليسار التونسي وفق آراء عدد من متتبعي الشأن السياسي مسألة مشكوك فيها وقد ينعكس عليها سلبا الركض وراء الزعامات وعدم القيام بالنقد والتقييم الداخلي والوقوف على الثغرات والهانات خاصة بعد الانتخابات البلدية الأخيرة.
عن هذا الجدل والصراع تحدّث أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسية الدكتور عبد الجليل بوقرة ل»الصباح الأسبوعي» مستعرضا بعض مسارات اليسار التونسي ومنتقدا مسيرة الجبهة الشعبية منذ تأسيسها إلى حين بروز خلافاتها علنا.
أوضح مُحدّثنا أنّ «اليسار التونسي سواء كان اليسار الاشتراكي أو اليسار القومي حقّق انجازا كبيرا في مساره عندما توّحد في الجبهة الشعبية، وهو في اعتقادي أهم إنجاز تاريخي لليسار. لأنّ هذا التيار السياسي والفكري ظلّ يُعاني لسنوات طويلة من مشكل كبير وهو مشكل التشّتت والانقسام والصراع».
أضاف «لا ننسى أنّه عندما ظهر اليسار الجديد سنة 1963 مع حركة بارسبكتيف كان الهدف الأول لهذه الحركة توحيد اليسار التونسي بحيث ظلّ هذا الحلم قائما حوالي نصف قرن ويبدو أن اليسار لم يستطع تجاوز هذا الانجاز أي إنجاز الوحدة. إذ أنّه لم ينتشر في البلاد ويتمدّد كما كان يدعو إلى ذلك شكري بلعيد أحد أهمّ مؤسسي الجبهة الشعبية ولم يُركّز هياكل جهوية ولم يستطع ابتكار آليات للعمل الحزبي والسياسي الميداني كما هو الشأن بالنسبة لبقية الأحزاب السياسية».
كما أنّه «لم يستفد إلى حدّ الآن من الظرفية التاريخية التي أعطت لليسار مكانا أساسيا لأن وجود اليسار ضروري في الحياة السياسية ويمكن أن نقول انّه لو لم يكن هناك يسارا لعمل المجتمع على خلقه.
وبقي رغم ذلك هذا اليسار وتحديدا الجبهة الشعبية أسيرا لتصوّرات كلاسيكية قديمة وكرّس ممارسات سلبيّة تسببت في ضعفه وتشتّته. وبما أنّ اليسار لم يتخلّص من تلك الممارسات فإنّه كان منتظرا أن تتوسع الشًقّة بين أطرافه وتبرز الخلافات من جديد وتتعمّق».
يواصل الدكتور عبد الجليل بوقرة حديثه قائلا «لاحظنا بداية شروخ في صيف سنة 2015 عندما رفضت الجبهة السماح لمنجي الرحوي بالمشاركة في حكومة يوسف الشاهد. بعد أن سبق لها أن رفضت السماح لزياد لخضر بتولي رئاسة مجلس النواب للتحالف مع حزب نداء تونس».
هذا الرفض المُتكّرر، وفق قوله «جعل منجي الرحوي ينفجر ويُوجّه نقدا لاذعا وشديدا لحمّة الهمامي في وسائل الإعلام فلم يكُن نقدا داخليا بل تجاوزه إلى التشهير. وقال صراحة أنّ رصيد حمّة الهمامي قد نفذ وعليه أن ينسحب من الحياة السياسية».
هذا الإعلان كان «إيذانا بوجود مشكل كبير داخل الجبهة وانسداد الآفاق أمامها، منذ ذلك الوقت إلى الآن أي قرابة الأربع سنوات لم يُحصل أي تقدّم ووصل اليسار إلى فترة ومرحلة مفصلية بتاريخه في تونس».
وبالتالي «فإمّا التجدّد والانطلاق على أسس جديدة وثابتة وصياغة برامج واقعية وعملية والاستفادة من مكانة الأفكار اليسارية من عدالة اجتماعية وحريات ومساواة في وجدان جزء كبير من الشعب التونسي وذلك بتركيز هياكل مفتوحة على قوى اجتماعية جديدة وشبابية، وإمّا الاندثار والتهميش بفعل عوامل ذاتية وشخصيّة من داخل الجبهة لا بفعل النظام كما كان عليه في عهدي بورقيبة وبن علي بفعل القمع والمراقبة والتهميش».
فالجبهة، كما أكّد ذلك بوقرة «ستتسبّب بنفسها في تهميشها وفقدان ما كسبته سنة 2014، ففي سنة 2011 كانت المشاركة هزيلة بسبب التشتّت والانقسامات، فاستوعب شكري بلعيد الدرس وراجع مواقفه وتغيّر كثيرا ورأى أنه من الضروري تغيير الشعارات وتغيير البرامج فكانت الجبهة الشعبية وهو ما أكسبها رصيدا مشرفا في سنة 2014 والحصول على 15 مقعدا في البرلمان و250 ألف صوت في الانتخابات الرئاسية».
لكن «هذا الرصيد لم يتمّ تطويره وتمّ الاكتفاء بالرفض والمعارضة المطلقة دون تقديم بديل وخاصة دون تحقيق الانتشار الميداني، فأين هو حضور الجبهة الشعبية في الأحياء الشعبية بالمدن الكبرى باعتبارها خزانا كبيرا لم تستفد منه إلا حركة النهضة. أضف إلى ذلك غيابها عن المناطق الداخلية. حتى أنّ دعواتها إلى النزول إلى الشارع لم تعد تلقى الصدى الكبير والمعهود».
وأضاف بوقرة «وصل الأمر بالجبهة الشعبية إلى التخلي عن مبادئها الأساسية في الدفاع عن الحداثة والتنوير وعن المساواة بين المرأة والرجل ورأينا موقفها في ما يهمّ المساواة في الميراث الداعي إلى تأجيل المصادقة على القانون بالرغم من أنّ المساواة مبدأ أساسيا في الفكر الاشتراكي في تونس وخارجها».
كلّ هذه المسائل، وفق حديثه، «تجمّعت وعاد الصراع من جديد من صراع إيديولوجي عقائدي وأكثر من ذلك فهو صراع ذاتي وأحادي وشخصي، والحال أنّ الانتخابات التشريعية والرئاسية على الأبواب ولم يُعد هناك الكثير من الوقت لمجابهة هذه الخلافات».
فكان حريّ بالجبهة الشعبية أن «توّجه لأنصارها وأحبائها رسائل مفادها أنها بصدد العمل على التجديد والتجدّد والتطوّر وذلك بترشيح وجه شبابي جديد مثل منجي الرحوي وتكريس مبدأ الديمقراطية والشفافية وتوسيع التشاور بين قواعدها عند اختيار مرشحها وهذا كان موقف حزب «الوطد» بفتح نقاش والاتفاق حول مرشح واحد».
وحسب كلّ المواقف والقراءات الأخيرة، أوضح الدكتور عبد الجليل بوقرة أنّه «حسب الوضع الراهن والمتابعة الدقيقة لمواقف الجبهة، فإنّها لا توحي بتغيير في وضعها بل كلّ المؤشرات توحي بالدخول في نفق مظلم وفي أزمة وعودة التشّتت والانقسام».
وأضاف «هذه مسألة مؤسفة لتونس لا دفاعا عن اليسار وإنما لأنّ تونس في حاجة إلى يمين ويسار ووسط لتعديل البوصلة ولتحقيق مشهد سياسي طبيعي. فتغييب اليسار عبارة على فريق كرة قدم يلعب دون جناح ومهاجم أيسر. فمن سيؤطر الشباب الحالم والمتمرد والباحث عن التغيير وتوجيهه وجهة صحيحة لصالح المجتمع حتى لا يتحول إلى شباب يلجأ إلى التخريب والعنف غير المنظم. وبالتالي وجود الجبهة الشعبية ضروري للتأطير والتوجيه، وفي اعتقادي إذا كان هناك أمل في نهضة جديدة لليسار التونسي فسيكون ذلك عن طريق أكثر التيارات اليسارية نضجا وهو تيّار «الوطد».
إيمان عبد اللطيف
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
يرجى إدخال الرمز أدناه
*



تحديث الرمز

(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)